أطفالنا وتأثير هذه الثورة عليهم،
فهم عماد الأمة ومستقبلها، والتفريط فيهم يعني التفريط في جزء مهم من
مستقبلنا ككل، والمتابع لمجتمعه من حوله يلحظ الفجوة الحاصلة بين جيلين،
جيل الآباء وجيل الأبناء، أعلم أنّ هناك آباء ركبوا موجة التقنية وأصبحوا
على علم بها، ولكني أظن أن هناك عدد لا يستهان به لا يفقه من التقنية إلا
اسمها، وبالمقابل نجد الأطفال الآن يعوون الكثير مما يدور حولهم، وأصبحوا
يتعاملون مع التقنيات بشكل واسع وبعيد ـ في الغالب ـ عن رقابة الأسرة.
الجوال والفضائيات
إنّ الهاجس الأكبر عندنا هو المحتوى السيء الّذي يُمكن أن يتعرض له الطفل
في هذه الأجهزة التقنية، وحتى نستوعب المشكلة سأحاول تقسيمها إلى عدة أقسام
من حيث تعامل الطفل معها:
القسم الأول: الفضائيات وليس هذا مما يعنيني الكلام فيه في هذا المقال،
وعلى خطورته، إلا أنني لست بالمتمكن من الكلام فيه، ولعل غيري قد أشبعه أو
يشبعه طرحًا وعرضًا.
أما القسم الثاني: أجهزة الاتصال النقالة (الجوالات) وهي جزء من الهاجس
الذي لدي ولكن ليست كله، فالطفل أصبح على اتصال بالعالم الخارجي دون رقابة
من والديه، كما أنّ أغلب هذه الأجهزة الآن أصبحت مدعمة بعدد من التقنيات،
وكلّ واحدة منها قد تُستغل بشكل سلبي مع الطفل، فمن الكاميرا إلى تقنية
البلوتوث، إلى رسائل الوسائط إلى الرسائل والخدمات التفاعلية كالبلاك بيري
ونحوها، وكلها تؤثر في محتوى الجهاز، ومهما حاولت منع ابنك من الحصول على
أي محتوى غير لائق، فلن تضمن عدم حصوله على هذا المحتوى من أي طريق من
الطرق التي سبق ذكرها.
الإنترنت الأخطر..
ومن أهم وأخطر التقنيات الحديثة على فلذات أكبادنا ـ القسم الثالث ـ وهي
الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ولا شك أنّ هذه الشبكة قد أفادت البشرية
وأنها تمثل نقلة كبيرة في علم الاتصال، وتوفير المعلومة بشكل قد لا يستوعبه
العقل البشري لو تأمله، وشأن هذا المخترع العجيب شأن غيره، فسوف يوظفه أهل
الشر في خدمة شرهم، كما يوظفه أهل الخير لخدمة خيرهم.
إحدى مشاكل الإنترنت أنك حينما تطل عليها من خلال شاشة جهازك، فكأنما تقف
أمام طوفان، بل هي أكبر من الطوفان فأمامك مئات الملايين من المواقع، وما
هي إلا نقرات بزر الفأرة إلا وأنت تبحر في هذا الطوفان، ومن لم يكن لديه
هدفٌ واضحٌ ومحددٌ وإلا تاه في هذا الخِضَم، هذا حينما نتكلم عن كبار السن
من المتعلمين والموظفين الناضجين ـ رجالاً كانوا أو نساءً ـ فما بالك حينما
يكون الكلام على فلذات الأكباد، محدودي التفكير، ذوي العقول الصغيرة
والأفهام البريئة؟!
إنّ تسليم الأطفال لهذه الشبكة، لهُوَ أشد خطرًا وأكثر فتكًا من رميهم في
غابة مدلهمة الأخطار، ذلكم أنّ المسألة تتعلق بعقلية الطفل، وما قد تقع
عليه عيناه مما لا يمكن للكبار أن يستوعبوه فضلاً عن هؤلاء الأطفال، وحدث
ولا حرج عن خطورة هذا الأمر وما قد يسببه من تأثيراتٍ عميقةٍ جدًا في نفسية
الطفل، وما يمكن أن يُلقَـى في روعه من هذه المصائب العظيمة التي تدع
الحليم حيرانًا، فكيف ـ مرة أخرى ـ بمن لم يبلغ الحلم؟
إنّ الآثار السلوكية والتربوية والأخلاقية الممكن أن تتركها مثل تلك
المشاهد القاتلة ـ لا أقول الخادشة للحياء ـ في نفس الطفل خطيرة جدًا!!
ومهما تحدث المهتمون والمربون عن خطورة الموضوع إلا أنّه يظل أكبر بكثير
مما نتصوره، "ففي كندا أشار التقرير الصادر عن المؤسسة الكندية للتربية
والأسرة في عام 2004م إلى أنّ العديد من الدراسات أثبتت أنّ هناك ارتباطًا
قويًا بين تعرُّض الأطفال للمواد الإباحية والسلوك الجنسي المنحرف، وأنّ
هناك حاجة ماسة إلى قوانين وتشريعات لحماية الأطفال.
الأخطار
وفي ألمانيا تُعَدّ (دونا رايس هوجز) واحدة من أبرز المهتمين بشؤون حماية
الطفل من خطر مشاهدة المواد الإباحية، وقد كتبت (هوجز) تفصيلاً عن آثار هذه
المشاهدة في دراستها، التي نشرها موقع «حماية الطفل»، فتقول: "مشاهدة
الأطفال للمواد الإباحية تجعلهم فريسة للعنف الجنسي، حيث أثبتت الدراسات أن
الإنترنت أداة على درجة عالية من النفع لهؤلاء المولعين بحب الأطفال وذئاب
الجنس، فهذه الفئة من الناس هي التي تقوم بتوزيع المواد الإباحية التي
تعرِّض الأطفال للجنس، وتدخل في محادثات جنسية صريحة مع الأطفال، وكلما زاد
تعامل هؤلاء مع المواد الإباحية ارتفعت مـخاطر ممارستهم لما يشاهدونه؛
سواء أكانت هذه الممارسة في صورة اعتداء أم اغتصاب جنسي أم تحرش بالأطفال".
وقد بيَّنت دراسات أخرى أنّ التعرُّض المبكر ـ في سن الرابعة عشرة تقريبًا ـ
للمواد الإباحية له علاقة بالدخول إلى عالم الممارسات الجنسية المنحرفة
وخاصة الاغتصاب. وأنّ 53 % من الذين تم تحريضهم على التحرش استخدموا عمدًا
المواد الإباحية لإثارتهم ونفّذوها كما رأوها، وتبيِّن الدراسات أنّ مشاهدة
المواد الإباحية يمكن أن تدفع الأطفال إلى سلوكيات جنسية منحرفة ضد
الأطفال السذج، والذين هم أصغر منهم سنًا. وقد توصلت هذه الدراسات إلى
نتيجة هامة هي: الأطفال الذكور حينما يتعرضون لمدة 6 أسابيع على الأقل
لمواد إباحية فاضحة تنمو لديهم الصفات التالية:
- سلوكيات جنسية شديدة القسوة بالنسبة للمرأة، وإدراكات مشوهة عن النشاط الجنسي.
- لا ينظرون إلى الاغتصاب على أنّه اعتداء إجرامي، بل لا يعدّونه جريمة بالكلية.
- الشهية نحو سلوك جنسي أكثر انحرافًا، وأكثر شذوذًا، وأكثر عنفًا، كما
يرونه في المواد الإباحية، ولا يصبح الجنس العادي ذا قيمة عندهم.
- يفقدون الثقة في الزواج بوصفه مؤسسة حيوية ودائمة. كما ينظرون إلى
العلاقات مع نساء غير زوجاتهم بوصفها أمرًا عاديًا وطبيعيًا". (1)
والآن تتنادى الدول، التي سبقتنا في عصر الثورة المعلوماتية، لسن قوانين
صارمة لتجريم تداول المحتوى الإباحي على مستوى الأطفال والقُصّر، فحري بنا
نحن في مجتمعاتنا المحافظة التي تربى أبناؤها على الأخلاق الإسلامية
الرائعة أن نكون أصحاب السبق في هذا الميدان، فهذه ثقافتنا وهذه تعاليمنا
الدينية السمحة، ولن نأتي بجديد ولله الحمد، فمجرد التنبه لهذا الخطر لا
يكفي، ما لم يكن هناك منظومة متكاملة من العمل الدؤوب الجاد لاحتواء
الموقف، وزرع وتنمية الرقيب الذاتي في نفوس الناشئة، لأنّ المربي والأسرة
مهما أحكموا إغلاق الأبواب أمام الأبناء، إلا أنّ النوافذ باتت أكثر وأوسع
من باب واحد نغلقه.
الحلول
قد يتساءل البعض وما هو الحل أمام هذه الأخطار المحدقة؟ وتلك النوافذ المُشرعة داخل كل منزل؟
إنّ مجرد تشخيص المشكلة والتعرف عليها والاعتراف بها، يُعد بداية الطريق
نحو الحل، أما دس الرأس في التراب والتعامي والتغافل عن القيام بالدور
المنوط بكل أفراد المجتمع ـ وخاصة الآباء والأمهات والمربين والمربيات ـ
فلن يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة.
وهنا بعض المقترحات، وهي اجتهاد مني وقد يرى غيري غيرَها:
أولا: يجب أن تنمي المدارس جانب الرقابة والتربية الذاتية لدى الناشئة، مع
الحذر كل الحذر من التعزيز السلبي للسلوك، فلا نحذٍّر الأطفال مما قد لا
يعلمه بعضهم أو أكثرهم، فيذهبوا للبحث عنه ومحاولة اكتشافه، وأيضًا تعزيز
السلوك السلبي عند من يمارسه بشكل لا إرادي! بل يكون التوجيه بمحاولة ملء
الفراغ الممكن حصوله عند الطفل إذا ما جلس أمام الشاشة، بنشر قوائمَ
بمواقعَ هادفةٍ تكون بمثابة المفضلة للطفل، ويكون بناء هذه المفضلة جماعيًا
بحيث يُدلي كل الطلاب بدلوهم مع توجيه المعلمين لهم وتصويب أو تصحيح ما قد
يجدونه من أخطاء، وربما يكون بتوفير محتوى جيد وموجه للأطفال الذين لديهم
أجهزة اتصال متنقل كالجوالات، ويكون هذا المحتوى منوعًا بين الترفيه
والعلوم والمعارف المختلفة، بحيث لا يبقى لدى الطفل وقت ومكان فارغ للبحث
عن، أو الحصول على المحتوى السيئ.
ثانيا: تحمل الأسرة على عاتقها عبئًا كبيرًا إلى جانب المدرسة في القيام
بدورها مع أبنائها، ولو أنّ البيت قام بدوره كما يجب، لتقلصت كثير من
المشاكل وسوف أجعل تركيزي هنا على دور الأسرة أكثر من غيرها، لأنها هي
المحضن الأول والملاذ الأخير للطفل، وأيضًا سأحاول التركيز على خدمة
الإنترنت أكثر من غيرها، وسوف يكون ذلك من خلال عدد من الجوانب:
- كسر الحاجز النفسي بين الأبناء ووالديهم، وإذابة جبال الثلج المتكونة بين
الآباء وأبنائهم، وجعل الأمور في البيوت مبنية على البساطة في العلاقة
والحب والمكاشفة والمصارحة، فإنّ هذا سيختصر على الأسرة طريقًا طويلاً
وشاقًا للوصول إلى قلب الطفل.
- ترشيد توفير الأجهزة والخدمات التقنية لأطفالنا قدر المستطاع، وعدم
التساهل في هذا الموضوع، فلا يُمَكَّنُ الطفل من اقتناء كل جديد في السوق،
بحجة مواكبة العصر! بل تقسم احتياجات الطفل ويُفَرّق بين ما هو حاجي وضروري
وكمالي.
- ترشيد وصول الأطفال في البيوت إلى الإنترنت، فلا يكون هذا الأمر متاحًا
أمام الطفل بشكلٍ مفتوح، فلابد من وضع قواعد صارمة من حيث أوقات التعامل مع
الإنترنت، فيكون هناك وقت محدد لجلوس الطفل أمام الإنترنت، وينبغي أنّ
يكون هذا الوقت أثناء وقت ذروة الحركة في البيت، وليس آخر الليل أو وقت
قيلولة الوالدين مثلاً!
- تعويد الطفل منذ البداية على مشاركته الاطلاع على أي محتوى يريد الوصول
إليه، وأنّ يكون هناك مقعدان متلازمان: مقعد للطفل، ومقعد آخر بجواره لأحد
الوالدين على الأقل، حتى يحس الطفل بالأمان، ويشعر بالفراغ في حال بقي
المقعد الثاني شاغرًا، وأن يكون هذا التواجد من الوالدين إيجابيًا، بحيث
يتبادل مع الطفل الحديث عن المواقع التي يزورها، والهدف من زيارة هذا
الموقع أو ذاك، وتزويده أيضًا ببعض المواقع الهادفة التي تساعده على قضاء
وقته بشكل أكثر فعالية أمام الجهاز، ومشاركته الاطلاع على بريده إنْ كان له
بريد، وهذا لا يتنافى مع خصوصية الطفل، لأنّ دائرة الخصوصية تتسع في حال
الأطفال كثيرًا، حتى تكاد تكون شبه معدومة؛ لتبدأ هذه الدائرة بالضيق كلما
كبر الطفل واقترب من مرحلة المراهقة، وبالتالي مرحلة الشباب.
- أن يتعود أهل البيت من حين لآخر على عدم توفر الإنترنت بشكلٍ دائم، فقد
ينتهي الاشتراك مثلاً ويتعمد الأب عدم التجديد لفترة يراها مناسبة، لكسر
عادة الجلوس أمام الجهاز، وهذه الطريقة ناجحة حتى مع الكبار أنفسهم.
- توفير برامج حماية الأطفال ومرشحات المواقع، والّتي تقوم على القوائم
البيضاء، بمعنى كل شيء محجوب ما عدا ما يسمح به الأبوين أو يقومان
بمراجعته، وعدم ترك موضوع الترشيح للشركات المقدمة للخدمة التي تعتمد في
الغالب على فكرة القوائم السوداء ـ كل شيء مسموح إلا ما هو موجود في هذه
القوائم ـ، وهناك الكثير من البرامج التي تقوم بهذه المهمة، وقد وجدت بعضها
على الإنترنت بشكل مجاني، والبعض الآخر بمقابل، ولكني أرى هذا المقابل
يستحق ما ندفعه فيه مقابل حماية أطفالنا، وهذه البرامج تتفاوت من حيث
ميزاتها، فمنها ما يضبط المحتوى إضافة إلى الوقت، فيسمح بالتصفح لمدة ساعة
كل يوم – مثلاً – أو أقل أو أكثر، ويمكن تحديد هذه الساعة بوقت معين أو
جعلها مفتوحة في أي وقت ومتى ما استهلك الطفل هذه الساعة يقوم البرنامج
بمنع الوصول للإنترنت.
- أن يكون الطفل رقيب نفسه، فإذا تحققت هذه فقد اختصرنا على أنفسنا الكثير والكثير من الوقت في متابعته.
- كل ما سبق لا يغني عن جانب مهم جدًا، يغفله الكثير وينسونه مع دوامة
الحياة ومشاغلها، وهو الدعاء أن يحفظ الله الأبناء، وأن يكلؤهم بعينه التي
لا تنام